"الشجرة, لفظة شكر خضراء ترفعها الأرض كنجوى لجارتها السماء"
درويش
الشجرة الأم
بدا كل شيء ساكناً وهادئاً فوق كروم الزيتون ومقبرة المخيم المجاورة لها عندما مالت الشمس خلف الجبال وبدأ قاطفو الزيتون بالمغادرة واحداً تلو الآخر ملتزمين بإشارة حارس الكروم العجوز" شيحا" لهم بترك ما بأيديهم والمغادرة سريعاً عندما جسّ بفتحتيّ منخاره الواسعتين رائحة الهواء التي وشت بطر غزير على الأبواب , ومع مغادرة آخر واحد فيهم تقدم العجوز للمسافة الفاصلة بين المقبرة وأول صف شجر في الكروم , وتحت إحدى الشجرات أنزل سحاب سرواله وبال , ولما فرغ مسح ما علق على كفه من قطرات بجذع الشجرة ونزل مقرفصاً حين لمح حبة زيتون فرّت واستقرت بين حجرين , أمسكها وشد عليها فنزّت قطرات الزيت اللزج , قرّبها من انفه وشمها جيداً وهمس : " لا فائدة "
في هذه الأثناء بدأ العجوز يسمع صوت ارتطام حبات المطر بالتراب , نهض مسرعاً لغرفته عند سور المقبرة والمطلة على الكروم , أضاء " البريموس " ووقف بالباب يدخن ويراقب وابل المطر المتكسر في الضوء الخارج من غرفته وقد نمت على وجهه ابتسامة خفيفة سرعان ما انطفأت عندما مدّد نظرة لما وراء المقبرة ورأى أضواء سيارة المختار ذات الدفع الرباعي وهي تستقر على الجهة المقابلة للمقبرة همس " ما الذي جاء بهذا الخراء الآن ؟ وأخذ يتابع المختار وهو ينزل من السيارة ويدرج باتجاهه بخطوات ثقيلة متجاوزاً شواهد القبور وصفعات الريح المحملة بحبات المطر البارد وكلما كان يقترب منه أكثر يبان للعجوز طوله الفارع وعرض منكبيه وكرشه المتدلي أمامه فيتذكر بشاعة وجهه ويقطب ما بين حاجبيه
ـ كيف حال عجوزنا " شيحا" ؟ صرخ المختار قبل أن يصله
ـ نسي المختار إطفاء أضواء سيارته " رد العجوز
التفت المختار إلى الخلف ولم يجد صعوبة للمح وابل المطر في ضوء السيارة, إلا أنه أكمل طرقه بعدما نحّى العجوز عن طريقه وهو يدخل الغرفة ويتمتم " صرت أنسى كثيراً هذه الأيام "
ـ ومهمل كثيراً " همس العجوز لنفسه "
ظل العجوز واقفاً بالباب يدخن ويحدق من بعيد بوابل المطر المنهمر أمام أضواء السيارة إلى أن صفعته موجة ريح محملة بقطرات المطر , أدخل رأسه في ياقة معطفه وانكفأ للداخل محاولا قدر الإمكان عدم النظر في وجهه المختار الذي انشغل بنفض معطفه وتعليقه على عصا " الخرطوش " ليجف
وكمن يرمي حجراً ـ كعادته ـ رمى المختار السؤال بصوته الجهور
ــ كيف المحصول ؟
مثل مؤخرتي . أجاب العجوز وأراد أن يشرح للمختار أن عجلته وعدم تأخيره القطاف لنهاية شهر تشرين الثاني هي السبب لكنه لم يجد داعياً لذلك الأن فالمختار لم يأتي في هذا الوقت إلا ليخبره بأنه ينوي الكروم أو أنه قد باعها فعلاً لمقاول الإنشاءات " حنا " الذي ينتظر الإشارة لجرف كل هذا الشجر
أطبق الصمت على الغرفة ولولا عبث تموجات شعلة " البريموس " بظليهما على الجدران لخلت الغرفة مما يدل عليهما , وزاد صفير الريح في الخارج وصفع المطر الجو توتراً مما جعل المختار يختصر ويأمر العجوز :
ــ عندما يهدأ الجو , أحمل أمتعتك وارحل ," حنا" ينتظر منذ أيام .
ولأول مرة مذ دخل المختار ينظر العجوز في وجهه ويلمح بشاعة وجهه وجحوظ عينيه الّتان بدتا كعيني كلب أبله حدق العجوز بالمختار من جديد وأراد أن يخبره أن الشجر ما زال حاملاً وأنه لو ينتظر مع براز الكلب" حنا " حتى يتم القطاف على الأقل لكنه أحس أن لا فائدة من الكلام الآن , أشعل سيجارة وأشاح بوجهه عن المختار متابعاً شعلة " البريموس " التي هدأت فجأةً ,
انتبه المختار لانقباض وجه العجوز وشحوبه فأراد أن يخفف عليه , حمل معطفه ووقف بالباب أخرج خمسين دينار ومدها تجاه العجوز , تسمّر العجوز هذه المرة أمام المختار فاغراً فمه , أراد أن يصيح فيه أن ثلاث وعشرين عاماً قضاها بين الشجر الذ أكل عمره ليست ثمنها خمسين دينار ومن قال لك أنني أريد ثمنهاً أصلاً لكن غصةً في صدره صعدت لحنجرته ربطت لسانه وفردت غشاوة على عينيه فتقلص وجهه ولفترةٍ لم يعد يرى , أخذ نفساً عميقاً وفتح عينيه من جديد فلم يجد المختار الذي كان قد غادر من حيث أتى دارجاً بين القبور إلى سيارته ..
كفت السماء عن المطر ,. وانحسرت الغيوم كاشفة عن البدر الذي بدأ يضيء شواهد القبور وأغصان الشجر المبللة والتي بدت تلمع في ضوئه , وخفت سرعة الرياح في المنطقة كلها ولم يبقى منها سوى نسمات ما بعد منتصف الليل التي كانت تهب من فترة لاخرى مرقصة جذوع الشجر وباب غرفة الحارس " شيحا " الذي تمددت جثته على الأرض لافظاً أنفاسه الأخيرة .